فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{يُسبِّحُ لله ما فِي السّماواتِ وما فِي الْأرْضِ لهُ الْمُلْكُ} أي: ملك السماوات والأرض، ونفوذ الأمر فيهما {ولهُ الْحمْدُ} أي: الثناء الجميل، لأنه مولى النعم وموجِدها.
{ألمْ يأْتِكُمْ نبأُ الّذِين كفرُوا مِن قبْلُ فذاقُوا وبال أمْرِهِمْ ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ ذلِك بِأنّهُ كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبيِّناتِ فقالوا أبشرٌ يهْدُوننا فكفرُوا وتولّوا وّاسْتغْنى الله والله غنِيٌّ حمِيدٌ} [التغابن: 5- 6] أي: هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم، قابل للكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر، جاحد للحق، كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان، كاسب له، حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد، وما يتفرع عليها من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعبا، وتفرقتم فرقا. وتقديم الكفر لأن الأغلب فيما بينهم، والأنسب بمقام التوبيخ، أفاده أبو السعود {والله بِما تعْملُون بصِيرٌ} أي: فيجازيكم به، فآثروا ما يجديكم، وجانبوا ما يرديكم.
{خلق السّماواتِ والْأرْض بِالْحقِّ وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ الْمصِيرُ} [3]
{خلق السّماواتِ والأرْض بِالْحقِّ} أي: بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} أي: حيث برأكم في أحسن تقويم؛ وذلك أنه تعالى جعل الْإِنْساْن معتدل القامة على أعدل الأمزجة، وآتاه العقل وقوة النطق، والتصرف في المخلوقات، والقدرة على أنواع الصناعات {وإِليْهِ الْمصِيرُ} أي: مرجعكم للجزاء.
{يعْلمُ ما فِي السّماواتِ والْأرْضِ ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون والله علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي: بخفاياها، وما تنطوي عليه، وفيه تقرير لما قبله، كالدليل عليه، لأنه إذا علم السرائر، وخفيات الضمائر، لم يخف عليه خافية من جميع الكائنات.
قال الزمخشري: نبّه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور، أن شيئا من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه فحقه أن يتقى ويحذر، ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: {فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُم مُّؤْمِنٌ} كما ترى، في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصي الخالق، ولا تشكر نعمته. انتهى.
{ألمْ يأْتِكُمْ} أي: معشر الكفرة الفجرة {عذابٌ ألِيمٌ ذلِك بِأنّهُ كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبيِّناتِ فقالوا أبشرٌ يهْدُوننا} أي: كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط {فذاقُوا وبال أمْرِهِمْ} من عذاب الاستئصال. والوبال الثقل، والشدة المترتبة على أمر من الأمور. و{أمْرُهُمْ} كفرهم، عبر عنه بذلك، للإيذان بأنه أمر هائل، وجناية عظيمة {ولهُمْ} أي: في الآخرة {ويسْتنبِئُونك أحقٌّ هُو قُلْ إِي وربِّي إِنّهُ لحقٌّ} أي: ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا، وما أعد لهم من عذاب الأخرى، بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة والأعلام، على حقيقة ما يدعونهم إليه، فنبذوها، واتبعوا أهواءهم، واستهزؤوا برسلهم، وقالوا: {أبشر يهدوننا} ؟
قال ابن جرير: استكبارا منهم أن تكون رسل الله إليهم بشرا مثلهم، واستكبارا عن إتباع الحق من أجل أن بشرا مثلهم دعاهم إليه.
وجمع الخبر عن البشر فقيل {يهْدُوننا}، ولم يقل: يهدينا؛ لأن البشر وإن كان في لفظ الواحد، فإنه بمعنى الجميع. انتهى.
وقال القاشاني: لمّا حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس، ولم يجدوا منه إلا البشرية، أنكروا هدايته، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه، فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري، ولا يعرف الكمال إلا الكامل، ولهذا قيل: لا يعرف الله إلا الله، وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالا لما أمكن به التوجه نحوه، وكذا كل مصدق بشيء فإنه واجد للمعنى المصدق به، بما في نفسه من ذلك المعنى. فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلا، لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه، ولم يعرفوا من الحق شيئا، فيحدث فيهم طلب، فيحتاجوا إلى الهداية، فأنكروا الهداية.
{فكفرُوا} أي: بالحق والدين والرسول {وتولّواْ} أي: عن التدبر في الآيات البينات، {وّاسْتغْنى الله} أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى عنهم لما فعل ذلك. فـ {اسْتغْنى} معطوف على ما قبله، وجوز جعله حالا بتقدير قد. أي: وقد استغنى بكماله، عرفوا أو لم يعرفوا.
{والله غنِيٌّ} أي: بذاته عن العالمين، فضلا عن إيمانهم، لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له.
{حمِيدٌ} أي: يحمده كل مخلوق، أو مستحق للحمد بنفسه، وإن لم يحمده حامد.
{زعم الّذِين كفرُوا أن لّن يُبْعثُوا قُلْ بلى وربِّي لتُبْعثُنّ} أي: من قبوركم {ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ} أي: في الدنيا {وذلِك على الله يسِيرٌ} أي: هين لقبول المادة، وثبوت القدرة الكاملة.
قال ابن كثير: وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل، على وقوع المعاد ووجوده، فالأولى في يونس: {ويسْتنْبِئُونك أحقٌّ هُو قُلْ إِي وربِّي إِنّهُ لحقٌّ} [يونس: 53]، والثانية في سبأ: {وقال الّذِين كفرُوا لا تأْتِينا السّاعةُ قُلْ بلى وربِّي لتأْتِينّكُمْ} [سبأ: 3]. والثالثة هذه الآية.
{فآمِنُواْ بِالله ورسُولِهِ} أي: إذا كان الأمر كذلك، فآمنوا بالله وحده وبرسوله فيما يخبركم به من البعث والجزاء وغيره {والنُّورِ الّذِي أنزلْنا} يعني القرآن الحكيم. والالتفات إلى نور العظمة، لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال {والله بِما تعْملُون خبِيرٌ}
{يوْم يجْمعُكُمْ} ظرف لـ {تُنبّؤُنّ} أو لـ {خبِيرٌ} لما فيه من معنى الوعيد. كأنه قيل: والله مجازيكم يوم يجمعكم، أو مفعول لـ: اذكر {لِيوْمِ الْجمْعِ} أي: ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، أي: لأجل ما فيه من الحساب والجزاء {ذلِك يوْمُ التّغابُنِ} قال الزمخشري: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن، انتهى.
ومما حسن إطلاق التغابن على ما ذكر، وورد البيع والاشتراء في حق الفريقين، فذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واشتروا الضلالة بالهدى، وذكر أنهم ما ربحت تجارتهم، فكأنهم غبنوا أنفسهم. ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال: {هلْ أدُلُّكُمْ على تِجارةٍ} [الصف: 10] الآية. وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة، فخسرت صفقة الكفار، وربحت صفقة المؤمنين.
وقال القاشاني: أي: ليس التغابن في الأمور الدنيوية، فإنها أمور فانية سريعة الزوال، ضرورية الفناء، لا يبقى شيء منها لأحد، فإن فات شيء من ذلك، أو أفاته أحد، ولو كان حياته، فإنما فات أو أفيت ما لزم فواته ضرورة، فلا غبن ولا حيف حقيقة، وإنما الغبن والتغابن في إفاته شيء لو لم يفته لبقي دائما، وانتفع به صاحبه سرمدا، وهو النور الكمالي والاستعدادي، فتظهر الحسرة والتغابن هناك، في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة، كما قال: {فما ربِحت تِّجارتُهُمْ وما كانُواْ مُهْتدِين} [البقرة: 16]، فمن أضاع استعداده ونور فطرته، كان مغبونا مطلقا، كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة. ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده، أو اكتسب منه شيئا، ولم يبلغ غايته، كان مغبونا بالنسبة إلى الكامل التام، فكأنما ظفر بذلك الكامل بمقامه ومرامه، وبقي هذا متحيرا في نقصانه، انتهى.
{ومن يُؤْمِن بِالله ويعْملْ صالِحا يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبدا ذلِك الْفوْزُ الْعظِيمُ}
{والّذِين كفرُوا وكذّبُوا بِآياتِنا أُوْلئِك أصْحابُ النّارِ خالِدِين فِيها وبِئْس الْمصِيرُ ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلّا بِإِذْنِ الله} أي: بقدرة الله ومشيئته، كقوله تعالى في آية الحديد: {ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ فِي الْأرْضِ ولا فِي أنفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتابٍ مِّن قبْلِ أن نّبْرأها} [الحديد: 22]. {ومن يُؤْمِن بِالله يهْدِ قلْبهُ} أي: إلى العمل بمقتضى إيمانه، ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير.
{والله بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ} أي: فيعلم مراتب إيمانكم، وسرائر قلوبكم، وأحوال أعمالكم وآفاتها، وخلوصها من الآفات.
{وأطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرّسُول فإِن تولّيْتُمْ فإِنّما على رسُولِنا الْبلاغُ الْمُبِينُ} أي: لما أرسل به، والله سبحانه ولي الانتقام ممن عصاه، وخالف أمره.
{الله لا إِله إِلّا هُو وعلى الله فلْيتوكّلِ الْمُؤْمِنُون} قال ابن كثير: الأول خبر عن التوحيد، ومعناه طلب، أي: وحدوا الإلهية له، وأخلصوها لديه، وتوكلوا عليه، كما قال: {ربُّ الْمشْرِقِ والْمغْرِبِ لا إِله إِلّا هُو فاتّخِذْهُ وكِيلا} [المزمل: 9].
{يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحْذرُوهُمْ} خطاب لمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان له من أزواجهم وأولادهم من يعاديهم لإيمانهم، ويؤذيهم بسببه، فكان ذلك يغيظهم، وربما يحملهم على البطش بهم، فأمروا بالحذر من فتنتهم، وشركهم فحسب، وأن يظهروا فيهم بمظهر أولي الفضل، كما قال: {وأن تعْفُواْ} أي: عن ذنوبهم {وتصْفحُوا} أي: بترك التثريب والتعيير {وتغْفِرُوا} أي: جناياتهم بالرحمة لهم، {فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} أي: يعاملكم بمثل ما عملتم.
روى ابن جرير عن إسماعيل بن أبي خالد قال: كان الرجل يسلم فيلومه أهله وبنوه، فنزلت الآية.
وعن ابن عباس قال: كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده، ولم يألوا يثبطونه عن ذلك، فقال الله: إنهم عدوّ لكم فاحذروهم واسمعوا وأطيعوا، وامضوا لشأنكم، فكان الرجل بعد ذلك إذا منِع وثبط، مرّ بأهله وأقسم ليفعلن وليعاقبن أهله في ذلك، فقال الله جل ثناؤه: {وإِن تعْفُوا وتصْفحُوا} الآية.
{أنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} أي: تفتتن بهما النفس، ويجري عليها البلاء بهما، إذا أوثرا على محبة الحق.
{والله عِندهُ أجْرٌ عظِيمٌ} أي: لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما.
روى ابن جرير عن الضحاك قال: هذا في أناس من قبائل العرب، كان يسلم الرجل أو النفر من الحيّ، فيخرجون من عشائرهم، ويدعون أزواجهم وأولادهم وآبائهم عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله لا يفارقوهم، ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يرقّ ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد: يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم، أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبِّه إلا أن يطيعه به، فلذلك وعد في إيثار طاعة الله، وأداء حق الله في الأموال الأجر العظيم، وهو الجنة.
{فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ} أي: جهدكم ووسعكم، أي: ابذلوا فيها استطاعتكم، {واسْمعُوا وأطِيعُوا} أي: افهموا هذه الأوامر واعملوا بها {وأنفِقُواْ} أي: أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه {خيْرا لِّأنفُسِكُمْ} أي: وائتوا خيرا لأنفسكم، أي: اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم. فـ {خيْرا} مفعول بمقدر، وهذا قول سيبويه، كقوله تعالى: {انتهُواْ خيْرا لّكُمْ} [النساء: 171]، وقيل: تقديره: يكن الإنفاق خيرا، فهو خبر يكن مضمرا، وهو قول أبي عبيد. وقيل: مفعول لـ: {أنفِقُواْ} وهو رأي ابن جرير. قال: أي: وأنفقوا مالا من أموالكم لأنفسكم ستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا الموضع المال {ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ} أي: بالعصمة منه {فأُوْلئِك هُمُ الْمُفْلِحُون} أي: المنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
{إِن تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا} أي: بالإنفاق في سبيله، ما تحبون من غير منّ ولا أذى. قال الزمخشري: ذكر القرض تلطف في الاستدعاء {يُضاعِفْهُ لكُمْ} أي: يضاعف جزاءه وخلفه {ويغْفِرْ لكُمْ} أي: ذنوبكم بالصفح عنها {والله شكُورٌ} أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله، بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا {حلِيمٌ} أي: عن أهل معاصيه، بترك معاجلتهم بعقوبته.
{عالِمُ الْغيْبِ والشّهادةِ} أي: ما يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه {العزِيزُ} أي: الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه {الْحكِيمُ} أي: في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما يصلحهم. اهـ.

.قال سيد قطب:

{يُسبِّحُ لله ما فِي السّماواتِ وما فِي الْأرْضِ لهُ الْمُلْكُ ولهُ الْحمْدُ وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ (1)}
الدرس الأول: 1- 4 تسبيح ما في الوجود لله القادر الخالق المصور:
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد}..
فكل ما في السماوات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده؛ وقلب هذا الوجود مؤمن، وروح كل شيء في هذا الوجود مؤمنة، والله مالك كل شيء. وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة. والله محمود بذاته ممجد من مخلوقاته. فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب جامد الروح، متمردا عاصيا، لا يسبح لله، ولا يتجه إلى مولاه، فإنه يكون شاذا بارز الشذوذ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود.
{وهو على كل شيء قدير}..
فهي القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بقيد. وهي حقيقة يطبعها القرآن في القلب المؤمن فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه فإنما يركن إلى قدرة تفعل ما تشاء، وتحقق ما تريد. بلا حدود ولا قيود.
{هُو الّذِي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُم مُّؤْمِنٌ والله بِما تعْملُون بصِيرٌ (2) خلق السّماواتِ والْأرْض بِالْحقِّ وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ الْمصِيرُ (3)}
وهذا التصور لقدرة الله وتسبيح كل شيء له، وتوجه الوجود إليه بالحمد.. هو طرف من ذلك التصور الإيماني الكبير.
واللمسة الثانية في صميم القلب الإنساني، الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد الله. مؤمنا تارة وكافرا تارة. وهو وحده الذي يقف هذا الموقف الفريد.
{والذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}..
فعن إرادة الله وعن قدرته صدر هذا الإنسان؛ وأودع إمكان الاتجاه إلى الكفر وإمكان الاتجاه إلى الإيمان؛ وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله؛ ونيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد. وهي أمانة ضخمة وتبعة هائلة. ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز والقدرة على الاختيار؛ وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله ويقيس به اتجاهه. وهو الدين الذي نزله على رسل منه. فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة. ولم يظلمه شيئا.
{والله بما تعملون بصير}..
فهو رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل، بصير بحقيقة نيته واتجاهه، فليعمل إذن وليحذر هذا الرقيب البصير..
وهذا التصور لحقيقة الإنسان وموقفه هو طرف من التصور الإسلامي الواضح المستقيم لموقف الإنسان في هذا الوجود، واستعداداته وتبعاته أمام خالق الوجود.
واللمسة الثالثة تشير إلى الحق الأصيل الكامن في طبيعة الوجود، الذي تقوم به السماوات والأرض، كما تشير إلى صنعة الله المبدعة في كيان المخلوق الإنساني. وتقرر رجعة الجميع إليه في نهاية المطاف:
{خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير}..
وصدر هذا النص: {خلق السماوات والأرض بالحق}.. يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون، ليس عارضا وليس نافلة؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس. والذي يقرر هذه الحقيقة هو الله الذي خلق السماوات والأرض، والذي يعلم على أي أساس قامتا. واستقرار هذه الحقيقة في الحس يمنحه الطمأنينة والثقة في الحق الذي يقوم عليه دينه، ويقوم عليه الوجود من حوله؛ فهو لابد ظاهر، ولابد باق، ولابد مستقر في النهاية بعد زبد الباطل!
والحقيقة الثانية: {وصوركم فأحسن صوركم}.. تشعر الإنسان بكرامته على الله، وبفضل الله عليه في تحسين صورته: صورته الخلقية وصورته الشعورية. فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة. ومن ثم وكلت إليه خلافة الأرض، وأقيم في هذا الملك العريض بالقياس إليه!
ونظرة فاحصة إلى الهندسة العامة لتركيب الإنسان، أو إلى أي جهاز من أجهزته، تثبت تلك الحقيقة وتجسمها: {وصوركم فأحسن صوركم}.. وهي هندسة يجتمع فيها الجمال إلى الكمال. ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل. ولكن التصميم في ذاته جميل وكامل الصنعة، وواف بكل الوظائف والخصائص التي يتفوق بها الإنسان في الأرض على سائر الأحياء.
{وإليه المصير}.. مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق.. مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان. فمن إرادته انبثق، وإليه- سبحانه- يعود. ومنه المنشأ وإليه المصير. وهو الأول والآخر. المحيط بكل شيء.
{يعْلمُ ما فِي السّماواتِ والْأرْضِ ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون والله علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) ألمْ يأْتِكُمْ نبأُ الّذِين كفرُوا مِن قبْلُ فذاقُوا وبال أمْرِهِمْ ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ (5)}
طرفيه: مبدئه ونهايته. وهو- سبحانه- غير محدود!
واللمسة الرابعة في هذا المقطع هي تصوير العلم الإلهي المحيط بكل شيء، المطلع على سر الإنسان وعلانيته، وعلى ما هو أخ في من السر، من ذوات الصدور الملازمة للصدور:
{يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور}..
واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بربه، فيعرفه بحقيقته. ويمنحه جانبا من التصور الإيماني الكوني. ويؤثر في مشاعره واتجاهاته؛ فيحيا حياة الشاعر بأنه مكشوف كله لعين الله. فليس له سر يخفى عليه، وليس له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور.
وإن آيات ثلاثة كهذه لكافية وحدها ليعيش بها الإنسان مدركا لحقيقة وجوده، ووجود الكون كله، وصلته بخالقه، وأدبه مع ربه، وخشيته وتقواه، في كل حركة وكل اتجاه..
الدرس الثاني: 5- 6 تذكير بمصارع الكفار السابقين:
والمقطع الثاني في السورة يذكر بمصير الغابرين من المكذبين بالرسل والبينات، المعترضين على بشرية الرسل. كما كان المشركون يكذبون ويعترضون على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفرون بما جاءهم به من البينات:
{ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد}..
والخطاب هنا للمشركين- غالبا- وهو تذكير لهم بعاقبة المكذبين وتحذير لهم من مثل هذه العاقبة. والاستفهام قد يكون لإنكار حالهم بعد ما جاءهم من نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم. وقد يكون للفت أنظارهم إلى هذا النبأ الذي يقصه عليهم. وهم كانوا يعرفون ويتناقلون أنباء بعض الهلكى من الغابرين. كعاد وثمود وقرى لوط. وهم يمرون عليها في شبه الجزيرة، في رحلاتهم للشمال والجنوب.
ويضيف القرآن إلى المعروف من مآلهم في الدنيا ما ينتظرهم هنالك في الآخرة: {ولهم عذاب أليم}.. ثم يكشف عن السبب الذي استحقوا به ما نالهم وما ينتظرهم: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا}.. وهو الاعتراض ذاته الذي يعترضه المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو اعتراض فج ناشئ عن الجهل بطبيعة الرسالة، وكونها منهجا إلهيا للبشر، فلابد أن تتمثل واقعيا في بشر، يحيا بها، ويكون بشخصه ترجمانا لها؛ فيصوغ الآخرون أنفسهم على مثاله بقدر ما يستطيعون. ولا ينعزل هو عنهم بجنسه، فيتعذر أن يجدوا للرسالة صورة واقعية يحاولون تحقيقها في ذوات أنفسهم، وفي حياتهم ومعاشهم. وناشئ كذلك من الجهل بطبيعة الإنسان ذاته ورفعة حقيقته بحيث يتلقى رسالة السماء ويبلغها، بدون حاجة إلى أن يحملها إلى الناس ملك كما كانوا يقترحون. ففي الإنسان تلك النفخة من روح الله، وهي تهيئة لاستقبال الرسالة من الله، وأدائها كاملة كما تلقاها من الملأ الأعلى. وهي كرامة للجنس البشري كله لا يرفضها إلا جاهل بقدر هذا الإنسان عند الله، حين يحقق في ذاته حقيقة النفخة من روح الله! وناشئ في النهاية من التعنت والاستكبار الكاذب عن اتباع رسول من البشر. كأن في هذا غضا من قيمة هؤلاء الجهال المتكبرين! فجائز في عرفهم أن يتبعوا رسولا من خلق آخر غير جنسهم بلا غضاضة. أما أن يتبعوا واحدا منهم فهي في نظرهم حطة وقلة قيمة!
ومن ثم كفروا وتولوا معرضين عن الرسل وما معهم من البينات، ووقفت في صدورهم هذه الكبرياء وذلك الجهل. فاختاروا لأنفسهم الشرك والكفر..
{ذلِك بِأنّهُ كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبيِّناتِ فقالوا أبشرٌ يهْدُوننا فكفرُوا وتولّوا وّاسْتغْنى الله والله غنِيٌّ حمِيدٌ (6) زعم الّذِين كفرُوا أن لّن يُبْعثُوا قُلْ بلى وربِّي لتُبْعثُنّ ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ وذلِك على الله يسِيرٌ (7) فآمِنُوا بِالله ورسُولِهِ والنُّورِ الّذِي أنزلْنا والله بِما تعْملُون خبِيرٌ (8)}
{واستغنى الله والله غني حميد}.. استغنى الله عنهم وعن إيمانهم وعن طاعتهم.. وما هو- سبحانه- بمحتاج إلى شيء منهم ولا من غيرهم، ولا بمحتاج أصلا: {والله غني حميد}.
فهذا نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم. وهذا سبب ما ذاقوا وما ينتظرهم. فكيف يكذب بعد هذا النبأ مكذبون جدد؟ أليلقوا مصيرا كهذا المصير؟
الدرس الثالث: 7- 13 رد على تكذيب الكفار بالبعث وافتراق المؤمنين عن الكافرين فيه وتوجيه المؤمنين لطاعة الله:
والمقطع الثالث بقية للمقطع الثاني يحكي تكذيب الذين كفروا بالبعث- وظاهر أن الذين كفروا هم المشركون الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يواجههم بالدعوة- وفيه توجيه للرسول أن يؤكد لهم أمر البعث توكيدا وثيقا. وتصوير لمشهد القيامة ومصير المكذبين والمصدقين فيه؛ ودعوة لهم إلى الإيمان والطاعة ورد كل شيء لله فيما يقع لهم في الحياة:
{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون..}
ومنذ البدء يسمي مقالة الذين كفروا عن عدم البعث زعما، فيقضي بكذبه من أول لفظ في حكايته. ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى توكيد أمر البعث بأوثق توكيد، وهو أن يحلف بربه. وليس بعد قسم الرسول بربه توكيد: {قل بلى وربي لتبعثن}.. {ثم لتنبئون بما عملتم}.. فليس شيء منه بمتروك. والله أعلم منهم بعملهم حتى لينبئهم به يوم القيامة! {وذلك على الله يسير}.. فهو يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم السر والعلن وهو عليم بذات الصدور. وهو على كل شيء قدير. كما جاء في مطلع السورة تمهيدا لهذا التقرير.
وفي ظل هذا التوكيد الوثيق يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزله مع رسوله. وهو هذا القرآن. وهو هذا الدين الذي يبشر به القرآن. وهو نور في حقيقته بما أنه من عند الله. والله نور السماوات والأرض. وهو نور في آثاره إذ ينير القلب فيشرق بذاته ويبصر الحقيقة الكامنة فيه هو ذاته.
ويعقب على دعوتهم إلى الإيمان، بما يشعرهم أنهم مكشوفون لعين الله لا يخفى عليه منهم شيء: {والله بما تعملون خبير}..
وبعد هذه الدعوة يعود إلى استكمال مشهد البعث الذي أكده لهم أوثق توكيد:
{يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}..
فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه، كما يحضره الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله. ولكن قد يقربه إلى التصور ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن أبي ذر رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون. أطت السماء وحق لها أن تيط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجدا. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى. لوددت أني شجرة تعضد»..
{يوْم يجْمعُكُمْ لِيوْمِ الْجمْعِ ذلِك يوْمُ التّغابُنِ ومن يُؤْمِن بِالله ويعْملْ صالِحا يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبدا ذلِك الْفوْزُ الْعظِيمُ (9) والّذِين كفرُوا وكذّبُوا بِآياتِنا أُوْلئِك أصْحابُ النّارِ خالِدِين فِيها وبِئْس الْمصِيرُ (10) ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلّا بِإِذْنِ الله ومن يُؤْمِن بِالله يهْدِ قلْبهُ والله بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ (11)}
والسماء التي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك. هي هذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدودا. والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء! فهل هذا يقرب شيئا للتصور البشري عن عدد الملائكة؟ إنهم من بين الجمع في يوم الجمع!
وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن! والتغابن مفاعلة من الغبن. وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم؛ وحرمان الكافرين من كل شيء منه ثم صيرورتهم إلى الجحيم. فهما نصيبان متباعدان. وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء، وليغبن كل فريق مسابقه! ففاز فيه المؤمنون وهزم فيه الكافرون! فهو تغابن بهذا المعنى المصور المتحرك! يفسره ما بعده:
{ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير}..
وقبل أن يكمل نداءه إليهم بالإيمان يقرر قاعدة من قواعد التصور الإيماني في القدر، وفي أثر الإيمان بالله في هداية القلب:
{ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم}..
ولعل مناسبة ذكر هذه الحقيقة هنا هي مجرد بيانها في صدد عرض حقيقة الإيمان الذي دعاهم إليه في هذا المقطع. فهو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن الله. وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها. فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها. كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة. أو هذه الآية من السورة، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع.
وعلى أية حال فهذا جانب ضخم من التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن. فيحس يد الله في كل حدث، ويرى يد الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء. يصبر للأولى ويشكر للثانية. وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء؛ إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال.
وفي الحديث المتفق عليه: «عجبا للمؤمن! لا يقضي الله قضاء إلا كان خيرا له. إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن»..
{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}..
وقد فسرها بعض السلف بأنها الإيمان بقدر الله والتسليم له عند المصيبة. وعن ابن عباس يعني يهدي قلبه هداية مطلقة. ويفتحه على الحقيقة اللدنية المكنونة. ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها. ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح. ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور.
{وأطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرّسُول فإِن تولّيْتُمْ فإِنّما على رسُولِنا الْبلاغُ الْمُبِينُ (12) الله لا إِله إِلّا هُو وعلى الله فلْيتوكّلِ الْمُؤْمِنُون (13) يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحْذرُوهُمْ وإِن تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ (14)}
ومن ثم يكون التعقيب عليها:
{والله بكل شيء عليم}..
فهي هداية إلى شيء من علم الله، يمنحه لمن يهديه، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب، وكشف الأسرار.. بمقدار..
ويتابع دعوتهم إلى الإيمان فيدعوهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول:
{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين}..
وقد عرض عليهم من قبل مصير الذين تولوا. وهنا يقرر لهم أن الرسول مبلغ. فإذا بلغ فقد أدى الأمانة، ونهض بالواجب، وأقام الحجة. وبقي ما ينتظرهم هم من المعصية والتولي، مما ذكروا به منذ قليل.
ثم يختم هذا المقطع بتقرير حقيقة الوحدانية التي ينكرونها ويكذبونها، ويقرر شأن المؤمنين بالله في تعاملهم مع الله:
{الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
وحقيقة التوحيد هي أساس التصور الإيماني كله. ومقتضاها أن يكون التوكل عليه وحده. فهذا هو أثر التصور الإيماني في القلوب.
وبهذه الآية يدخل السياق في خطاب المؤمنين. فهي وصلة بين ما مضى من السورة وما يجيء.
الدرس الرابع: 14- 18 تحذير من عداوة الأولاد والأزواج والأموال وتوجيه إلى السمع والطاعة والإنفاق:
وفي النهاية يوجه الخطاب إلى المؤمنين يحذرهم فتنة الأزواج والأولاد والأموال، ويدعوهم إلى تقوى الله، والسمع والطاعة والإنفاق، كما يحذرهم شح الأنفس، ويعدهم على ذلك مضاعفة الرزق والمغفرة والفلاح. ويذكرهم في الختام بعلم الله للحاضر والغائب، وقدرته وغلبته، مع خبرته وحكمته:
{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}..
وقد ورد عن ابن عباس- رضي الله عنه- في الآية الأولى من هذا السياق وقد سأله عنها رجل فقال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}.. وهكذا رواه الترمذي بإسناد آخر وقال: حسن صحيح. وهكذا قال عكرمة مولى ابن عباس.
ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي وأبعد مدى وأطول أمدا. فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معا: {أنما أموالكم وأولادكم فتنة..} والتنبيه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدوا.. إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية. ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء. فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله. كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه:
{إِنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِندهُ أجْرٌ عظِيمٌ (15) فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنفِقُوا خيْرا لِّأنفُسِكُمْ ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُوْلئِك هُمُ الْمُفْلِحُون (16)}
فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير. كما يتعرض هو وأهله للعنت. وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده. فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدوا له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا. كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله.. وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات.. وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن.
ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات.
ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد. وكلمة فتنة تحتمل معنيين:
الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبدا يقظين لتنجحوا في الابتلاء، وتخلصوا وتتجردوا لله. كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب!
والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله.
وكلا المعنيين قريب من قريب.
وقد روى الإمام أحمد- بإسناده- عن عبد الله بن بريدة: سمعت أبي بريدة يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين- رضي الله عنهما- عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما، فوضعهما بين يديه. ثم قال: صدق الله ورسوله. إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما».. ورواه أهل السنة من حديث ابن واقد. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذان ابنا بنته.. وإنه لأمر إذن خطير. وخطر. وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس، وأودعها هذه المشاعر، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء!
ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج. فهذه فتنة {والله عنده أجر عظيم}..
ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والإستطاعة، وبالسمع والطاعة:
{فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا}..
وفي هذا القيد: {ما استطعتم} يتجلى لطف الله بعباده، وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» فالطاعة في الأمر ليس لها حدود، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع. أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان. ويهيب بهم إلى الإنفاق:
{إِن تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ (17) عالِمُ الْغيْبِ والشّهادةِ الْعزِيزُ الْحكِيمُ (18)}
{وأنفقوا خيرا لأنفسكم}..
فهم ينفقون لأنفسهم. وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم. فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم، ويعدها الخير لهم حين يفعلون.
ويريهم شح النفس بلاء ملازما. السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه؛ والوقاية منه فضل من الله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}..
ثم يمضي في إغرائهم بالبذل وتحبيبهم في الإنفاق، فيسمي إنفاقهم قرضا لله. ومن ذا الذي لا يربح هذه الفرصة التي يقرض فيها مولاه؟ وهو يأخذ القرض فيضاعفه ويغفر به، ويشكر المقرض، ويحلم عليه حين يقصر في شكره. وهو الله!
{إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم}..
وتبارك الله. ما أكرمه! وما أعظمه! وهو ينشئ العبد ثم يرزقه. ثم يسأله فضل ما أعطاه. قرضا. يضاعفه.. ثم.. يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه! ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه..! يالله!!!
إن الله يعلمنا- بصفاته- كيف نتسامى على نقصنا وضعفنا، ونتطلع إلى أعلى دائما لنراه- سبحانه- ونحاول أن نقلده في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة. وقد نفخ الله في الإنسان من روحه. فجعله مشتاقا أبدا إلى تحقيق المثل الأعلى في حدود طاقته وطبيعته، ومن ثم تبقى الآفاق العليا مفتوحة دائما ليتطلع هذا المخلوق إلى الكمال المستطاع، ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة، حتى يلقى الله بما يحبه له ويرضاه.
ويختم هذه الجولة بعد هذا الإيقاع العجيب، بصفة الله التي بها الإطلاع والرقابة على القلوب:
{عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}..
فكل شيء مكشوف لعلمه، خاضع لسلطانه، مدبر بحكمته. كي يعيش الناس وهم يشعرون بأن عين الله تراهم، وسلطانه عليهم، وحكمته تدبر الأمر كله حاضره وغائبه. ويكفي أن يستقر هذا التصور في القلوب، لتتقي الله وتخلص له وتستجيب. اهـ.